بين العنف والتهميش.. مبادرات نسائية لمواجهة الواقع المعقد في تونس
بين العنف والتهميش.. مبادرات نسائية لمواجهة الواقع المعقد في تونس
رغم ما حققته المرأة التونسية من مكاسب تاريخية على صعيد القوانين المدنية والتعليم والمشاركة العامة، فإن واقع كثير من النساء على الأرض ما زال بعيدًا عن مفردات الدستور.
وفي السنوات الأخيرة، برزت مؤشرات مقلقة حول تفشي العنف الأسري، وتزايد الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية في صفوف النساء، ما دفع عدداً من المبادرات المدنية إلى محاولة التدخل في غياب استجابة مؤسساتية كافية، بحسب ما ذكرت وكالة "JINHA"، اليوم السبت.
من بين هذه المبادرات، تعمل جمعية "قادرات" في تونس على التصدي لظواهر العنف والتمييز عبر آليات محدودة لكنها مركّزة، مثل الإيواء والتمكين الاقتصادي والدعوة إلى إصلاح القوانين، لكن هذه الجهود تصطدم بعقبات هيكلية تكشف حجم التعقيد الكامن في الواقع التونسي.
العنف الأسري.. معاناة مستمرة
في مركز إيواء صغير بمنطقة مقرين بالضاحية الجنوبية للعاصمة، تتولى الجمعية إيواء عدد محدود من النساء المعنفات لا يتجاوز عشرين حالة، مع إمكانية التمديد الزمني وفق الضرورة.
ولا يمثل المركز سوى نقطة في بحر، إذ تؤكد القائمات عليه أن الطلب فاق بكثير طاقته الاستيعابية، ما يضطرهن إلى قبول الحالات الأكثر خطورة أو مرافقة بأطفال في وضع نفسي حرج.
ورغم الجهد المبذول في تقديم الإيواء، الطعام، التعليم المؤقت للأطفال، والمرافقة النفسية، فإن غياب الربط المؤسساتي الكامل بين المركز والجهات القضائية أو الأمنية يعقّد الإجراءات، ويترك النساء في مواجهة فراغ تنسيقي قد يُعرضهن للخطر مجددًا.
التمكين الاقتصادي.. حلم للناجيات
تقرّ رئيسة الجمعية، سامية المالكي، أن أغلب النساء الناجيات من العنف لا يمتلكن المؤهلات أو المهارات اللازمة للاندماج السريع في سوق العمل.
وتضيف أن التبعية الاقتصادية هي من أبرز دوافع البقاء في علاقات مسيئة، قائلة: "المرأة حين تكون بلا مورد رزق لا تغادر بيت العنف، بل تسكنه تحت التهديد والحاجة".
وفي هذا السياق، أطلقت الجمعية برامج تدريبية بدعم من جهات شريكة، مثل صندوق "درية"، لتعليم النساء أساسيات ريادة الأعمال والإدارة المالية، لكن التجربة كشفت بدورها تحديات كبيرة: من نقص التدريب الحقيقي إلى ضعف المتابعة بعد انتهاء فترة الإيواء، الأمر الذي يعيد بعض النساء إلى دائرة الفقر والعنف من جديد.
وتشير الجمعية إلى أن المشاريع الحكومية والدولية السابقة في مجال "القروض الصغيرة" لم تحقق أهدافها، موضحة أن منح المال دون تأهيل فعلي أفضى إلى فشل اقتصادي جديد بدلًا من التمكين، وهو ما دفعها لإعداد دليل تدريبي مفصل ومتابعة مستمرة للمستفيدات بعد الخروج من المركز.
قوانين تعوق حقوق النساء
تُقرّ الجمعية بوجود قوانين مجحفة في تونس ما تزال تعيق حقوق النساء، مثل قوانين الحضانة، وتوزيع الميراث، والحق في إعادة الزواج دون فقدان الحضانة، لكن في الوقت ذاته، تبدي الجمعية خيبة أمل من ضعف تجاوب صناع القرار مع حملات المناصرة، ما يدفعها لاعتماد استراتيجية استدامة الضغط بدلًا من انتظار نتائج سريعة.
وتقترح الجمعية إدماج وسائل فنية مثل الدراما والأفلام لمعالجة القضايا النسوية في الوعي العام، معتبرة أن الخطاب الحقوقي النخبوي لا يصل دائمًا إلى الفئات المتأثرة.
ومن بين أبرز الإشكاليات التي تواجهها النساء عند طلب المساعدة هو التشتت بين الجهات الرسمية، إذ تضطر الضحية للانتقال بين الشرطة، المحامي، الطب، القضاء، والجمعيات، في رحلة مرهقة نفسيًا وبدنيًا.
وتدعو الجمعية إلى إنشاء "شباك موحد" في كل مدينة، يتولى تقديم الدعم القانوني، النفسي، والاجتماعي في مكان واحد، وهو مطلب سبق طرحه في أكثر من مناسبة دون أن يتحقق حتى الآن.
المرأة المسنة والتشويه الإعلامي
مع تزايد عدد المسنات في تونس، تلاحظ الجمعية أن هذه الفئة تظل شبه مغيبة عن السياسات والرعاية الاجتماعية، خاصة من لا سند لهن. وتسعى الجمعية إلى إدماج المسنات في ورش حرفية لتوفير دخل بسيط وكسر عزلتهن، لكن هذه المبادرة لا تزال في طورها التجريبي ومحدودة في انتشارها.
وتنتقد الجمعية ما تصفه بـ"تشييء المرأة في الإعلام"، حيث تُعرض المرأة التونسية أحيانًا كنموذج ترفيهي بعيد عن الواقع، ما يُضعف الوعي المجتمعي بالقضايا الحقيقية.
وضمن شراكة مع شبكة كرامة، أطلقت الجمعية برنامجًا لتدريب النساء البرلمانيات وعضوات المجالس المحلية الجدد على الخطابة، وإعداد مشاريع القوانين، والتفاعل مع المواطنين، خطوة مهمة، لكنها تبقى محصورة في شريحة صغيرة جدًا من النساء، في ظل إقصاء سياسي واسع لتمثيل النساء على المستوى المحلي والوطني.
الحاجة لتغيير أعمق
تظهر تجربة جمعية "قادرات" كمثال على الجهود الجزئية التي تبذلها منظمات المجتمع المدني لردم الفجوة بين النصوص الدستورية وواقع المرأة اليومية في تونس.
وتظل أن هذه الجهود، رغم ضرورتها، لا يمكن أن تُحدث التحول المطلوب ما لم تواكبها إرادة سياسية، واستراتيجيات مؤسساتية، وتغيير ثقافي عميق.
ففي بلد تعلو فيه شعارات المساواة، ما زالت نساء كثيرات يعشن في الظل، ضحايا للعنف، أو التهميش، أو التجاهل.. ينتظرن من ينصت لا فقط من يُعلن التضامن.